أنطوان مسرة: وثيقة الطائف انتاج لبناني أصيل وآخر الأعمال التأسيسية

 تعود سجالات في لبنان حول الميثاق ووثيقة الطائف والدستور الى أسباب ثقافية في علم النفس التاريخي وفي الذاكرة اللبنانية والى اغتراب عن الواقع اللبناني. يستغل مغامرون ومقامرون الخلل لنشر أوهام وللتعبئة النزاعية.ميثاق  الطائف لبناني أصيل وآخر مواثيقنا التأسيسية. لماذا؟ 
   1. لبنانيون بلا ذاكرة: ان السجالات والمداولات والنقاشات والانتقادات المستمرة حول مواثيق لبنان ونظامه الدستوري هي مؤشر لعدم رسوخ الثوابت اللبنانية طيلة قرون في الذاكرة الجماعية المشتركة بالرغم من غنى التراث الدستوري في لبنان في ايجابياته وسلبياته. يتطلب ذلك عملاً جديًّا في تعليم تاريخ لبنان وتعليم القانون الدستوري لبنانيًا في كليات الحقوق. يتصرف بالتالي لبنانيون بمواثيقهم، التي يُسميها ادمون رباط "التعهدات الوطنية"(1)، كزوجين يعيدان النظر في عقد الزواج، صباحًا ومساءً، بدلاً من التركيز على المواضيع اليومية حول ميزانية العائلة والسكن وتربية الأولاد...
  2. لكل بند في الطائف جذوره التاريخية: لا يمكن مقاربة وثيقة الوفاق الوطني – الطائف (22/10/1989 و 5/11/1989) وتعديل الدستور (21/9/2009) بدون الانكباب على جذور كل بند وما سبقه من سجالات ومداولات ونزاعات وأوراق إصلاحية من مختلف المصادر وخلال مفاوضات عديدة ومضنية. حملت تخمة المداولات والنقاشات والنزاعات والمفاوضات البعض على تسمية مقدمي المشاريع "بالوراقين"(2).
    تابعنا المداولات التي سبقت وثيقة الطائف طيلة سنوات 1975-1990. وضعنا وثيقة تبيّن الجذور اللبنانية لكل المضامين وكلها لبنانية باستثناء البند المتعلق "بإعادة تمركز القوات السورية " (ثانيًا، بند 4) (3).
ما يثبت ان هذا البند هو الوحيد الخارجي. أربع وقائع على الأقل:
   آ. الخلاف الحاد بين النظام السوري واللجنة السداسية العربية برئاسة وزير خارجية الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح في قمة الدار البيضاء (2/6/1989).
   ب. افادة مشاركين في الطائف ان الفقرة حول "إعادة تمركز القوات السورية""كتبها (هذه الفقرة) الرئيس حافظ الأسد بيده واذا كنت مصرًّا على شطبها وتغييرها فسننقل اليه رأيك ونقول انك أنت اقترحت ذلك"(4).
  ج. تصريح النائب الوزير مروان حماده خلال الجلسة النيابية في 28/2/2005.وضعنا النص الكامل لهذا التصريح في صدر الكتاب حول "جذور وثيقة الوفاق الوطني الطائف". كُلف الوزير مروان حماده من قبل الرئيس رفيق  الحريري باعداد مقدمة البيان الوزاري. بمجرد ذكر الطائف، في هذه المقدمة، رمى الرئيس الحريري النص في سلة المهملات وقال لمروان حماده: "جايي على ذكر الطائف يا مروان، بدّك تروّحنا؟" 
 يقول مروان حماده: "ألانه يذكر اللامركزية الإدارية أو استقلالية القضاء؟ هذه نكتة، بل لأنه يذكر مع كل الاستحقاقات انسحابات سورية لم تتم ولم يكن، كما يبدو في النية، اتمامها (...) بدك تروحنا يا مروان، كان رفيق الحريري مهدّدًا مذ ذاك"(5).
    د. بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، دعيت من قبل تلفزيون لبنان لمدة ساعة في 16/11/1989 حيث ركزت على البند المتعلق "بإعادة تمركز القوات السورية"،ومع التركيز على ان كل بنود وثيقة الطائف الأخرى لبنانيةأصيلة(6).
    هـ.المحاضر الرسمية للطائف: الوثائق الرسمية في حوزة الرئيس حسين الحسيني. حسنًا انه لم ينشرها في اطار ذهنية هي غالبًا سجالية عقيمة. لا ننتظر من الوثائق الرسمية الكثير حول الجذور المعروفة لكل البنود. ربما الأهمّ في الوثائق الرسمية ما يتعلق "بإعادة تمركز القوات السورية". على الأرجح أعطيت ضمانات شفوية وعامة حول الموضوع. قال لي البعض بعد المقابلة التلفزيونية: "كيف تقول ذلك: لدينا ضمانات!"
  3. اثنا عشر وثيقة على المستوى الرسمي طيلة سنوات 1975-1990: اصدر اللبنانيون اثنتي عشر وثيقة على الأقل في الوفاق الوطني على المستوى الرسمي قبل ميثاق الطائف. تعطلت كلها لأن الوفاق الداخلي غير كاف والحاجة الى وفاق إقليمي ودولي. ينطبق تمامًا على اللبنانيين ما قاله أحد الدبلوماسيين للهولنديين بعد ثلاثين سنة من الحروب وخلال اتفاقية اوترخت Utrecht سنته 1713: "سنوقع السلم لكم وعندكم وبدونكم"7.من يريد بعد اليوم "تعديل الطائف" يفتح الأبواب والنوافذ للعدو، والاشقاء، وأولاد العم...! اما تعديل الدستور فله آلياته المؤسسية.

  4. روعة في المخيلة الدستورية عالميًا: تبيّن جذور وثيقة الطائف، في بعض القضايا الشائكة، مدى خصب المخيلة الدستورية لدى الحكماء في الشأن اللبناني libanologues، بخاصة في ما يتعلق بالتوفيق بين مبدأي الفصل بين السلطات والمشاركة في الحكم séparation des pouvoirs et partage du pouvoir. المساواة بين المواقع الثلاثة العليا في الحكم (رئيس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس النيابي) مستحيلة كتربيع الدائرة. هذه المواقع متمايزة في صلاحياتها ورمزيتها.

طُرح 14 اقتراح في فترات مختلفة وبخاصة طيلة جولة ابريل غلاسبي April Glaspie (3-5/2/1988 و 6-10/3/1988) في سبيل تحقيق مساواة أو توازن مستحيل.

كيف خرجت وثيقة الوفاق الوطني من معضلة تربيع الدائرة؟ من خلال الخروج من منطق الصلاحيات واعتبار رئيس الدولة صاحب دور "للسهر على احترام الدستور" (المادة 49) مع توفير مستلزمات لهذا السهر. تتطلب ممارسة هذا الدور ملامح شخصية لرئيس الدولة على نمط الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يردد: "ماذا يقول الكتاب؟" (أي الدستور).

   شاركت في وساطة المانية-فاتيكانية-أوروبية في ميونخ بعد الاتفاق الثلاثي تاريخ 28/12/1985، في الفترة بين 24/9 و 5/10/1986، حيث كان جوهر المعضلة ابتداع معالجات دستورية تحافظ على مبدأي الفصل بين السلطات والمشاركة في الحكم8.أوجد حكماء الطائف والدستور اللبناني معالجة ريادية في العلم الدستوري المقارن والإدارة الديمقراطية للتعددية الدينية والثقافية من خلال المادة 65 من الدستور التي توجب أكثرية موصوفة في 14 قضية تجنبًا في آن لطغيان أكثرية وطغيان أقلية abus de majorité / abus de minorité.

   5. نوعان من البنود في وثيقة الطائف: يتضمن ميثاق الطائف نوعين من البنود: البنود الثوابت الوطنية، وبنود إجرائية (قانون الانتخاب، اللامركزية...). قد تتبدل الشؤون الإجرائية.  ليس المطلوب العدول عنها بل التقيّد بمقاصدها، ليس على نمط النص الحرفي للشريعة بل مقاصد الشريعة.

   6. آخر الأعمال التأسيسية: جوابًا على سجالات ونزاعات في أوائل الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990 وتصاريح من نوع: "مات الميثاق وقبرناه"، "لتبدأ معركة الجبل"، "لينتصر من ينتصر"، "انتهى عهد التسويات"... قال الرئيس رشيد كرامي حول ميثاق 1943: "لنعمل لما يغنيه ولا يلغيه". ميثاق الطائف هو ميثاقنا الأخير. يصف عباس الحلبي وثيقة الطائف بأنها "آخر الأعمال التأسيسية"9.

   7. ميثاق الطائف مفتوح الآفاق: الجديّة في الإصلاح والمستقبل موجودة في ميثاق الطائف في سبيل فاعلية الحكم و"السهر على احترام الدستور" وتخطي الممارسات الزبائنية... لا علاقة بتاتًا للممارسات السيئة بحرفية النص وجوهره. يعيش لبنان اليوم حال لا قانون nondroit حيث لا يوجد قانون واحد في لبنان مُطبق بجديّة وبشكل كامل!

  8. توبة قومية: الحاجة ان يترافق ميثاق 1989 مع نهج علمي جديد في تفسير ما حصل وحكمة سياسية وعملية وثقافية أصيلة في ادراك جوهر المواثيق في تاريخ لبنان.وأيها التقدميون والقوميون والتغييريون والحزبيون والتطوريون والمنظرون الدستوريون، لا نريد بعد اليوم ميثاقًا جديدًا! حفظنا الله من أي ميثاق جديد تُعيدوننا به على انقاض أسواق تجارية وأرواح الناس. ميثاق 1989-1990 هو ميثاقنا الأخير نعمل جميعًا "لما يغنيه ولا يلغيه"، حسب تعبير الرئيس رشيد كرامي سنة 1976 حول ميثاق 1943، توبة قومية رادعة لنا جميعًا ننقلها من جيل الى جيل.

 

العدد
الهوامش

 

1. ادمون رباط، مقدمة الدستور اللبناني، بيروت، دار النهار، "وثائق"، تقديم بشاره منسى، 2004، 84 ص.

2.أنطوان مسرّه، جذور وثيقة الوفاق الوطني-الطائف (22/10/1989) والتعديل الدستوري (21/9/1990)، الوثائق الأساسية المتعلقة بالتعديل الدستوري في لبنان (1975-1990)، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، سلسلة "وثائق" رقم 4،طباعة محدودة الإصدار، طبعة خامسة مضافة، 2019، 548 ص.

3. وضاح شراره، "الوراقين"، النهار، 10/12/1985.

4. أنطوان مسرّه (اشراف)، صياغة الدساتير في التحوّلات العربية (الخبرات العربية والدولية من منظور مقارن)، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم ومؤسسة كونراد اديناور، بيروت، المكتبة الشرقية، 2014، ص 134.

5. مروان حماده خلال الجلسة النيابية في 28/2/2005، صحف 1/3/2005 وبخاصة المستقبل، 1/3/2005، وفي كتاب: جذور وثيقة الطائف...، ص 2.

6. جذور...، ص 282-296.

7. “On signera la paix chez vous, pour vous et sans vous », ap. Maurice Braure, Histoire des Pays-Bas, Paris, PUF, « Que sais-je ?», no 490, 1974, 128 p., p. 71.

8. أنطوان مسرّه، الوساطة الدستورية الألمانية – الفاتيكانية – الأوروبية بعد الاتفاق الثلاثي في دمشق تاريخ 28/12/1985، بيروت، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، سلسلة "وثائق" رقم 107، طباعة محدودة الإصدار، 2018، 175 ص.

9. عباس الحلبي، "وثيقة الطائف آخر الأعمال التأسيسية"، في كتاب أنطوان مسرّه (اشراف)، صياغة الدساتير...، المرجع المذكور، ص 133-138

 

Add new comment

Restricted HTML

  • You can align images (data-align="center"), but also videos, blockquotes, and so on.
  • You can caption images (data-caption="Text"), but also videos, blockquotes, and so on.