بعد اعلان لبنان الكبير بلسان الجنرال غورو على درج قصر الصنوبر، على يد الانتداب الفرنسي 1920، تدرجت التجربة اللبنانية توصلا الى اعلان لبنان المستقل الحديث وذلك عبر التزاوج بين الميثاق والصيغة. الميثاق الوطني اللبناني وصيغة الحكم لإدارة النظام السياسي للدولة الوليدة.
الميثاق الوطني هو الاتفاق الرضائي بين المسلمين والمسيحيين للعيش معا في بلد واحد انطلاقا من تخلي المسلمين عن فكرة الوحدة العربية في المقابل تخلي المسيحيين عن فكرة الاحتماء بالغرب عامة وفرنسا على وجه الخصوص، وهذا ما انتج الاتفاق على معادلة " ان لبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب" حسب البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى برئاسة رياض الصلح وقد ترافق مع هذا الميثاق الاتفاق على صيغة الحكم في النظام البرلماني الديمقراطي اللبناني عبر تثبيت العرف القائل ان رئاسة الجمهورية لشخصية مسيحية مارونية ورئاسة الوزراء لشخصية من الطائفة الإسلامية السنية ورئاسة مجلس النواب لشخصية من المسلمين الشيعة.
إثر انطلاق لبنان الاستقلال وفق دستور 1926 الذي كان أعده الانتداب الفرنسي ومنح فيه رئيس الجمهورية سلطات واسعة واستثنائية كان يتمتع بها بالأساس الحاكم العسكري الفرنسي خلال فترة الانتداب على لبنان، فتحولت هذه الصلاحيات الرئاسية المنصوص عليها في الدستور، من المندوب السامي او الحاكم العسكري الفرنسي الى رئيس الجمهورية اللبنانية.
الجمهورية الوليدة وفق هذه الصيغة سرعان ما واجهت مشكلات متعددة نتيجة اللاتوازن في الصلاحيات الممنوحة الى رئيس الجمهورية، رئيس السلطات التنفيذية الكبيرة مقابل السلطات الأخرى أي رئيسي الوزراء الذي يحاسب امام البرلمان ورئيس مجلس النواب، وقد كان الرئيس عبد الحميد كرامي اول المعبرين عن الضيق الإسلامي من هذا اللاتوازن حين قدم استقالته من الحكومة الثانية بعد الاستقلال على درج مجلس النواب، قائلا: "لا استطيع ان احكم في هكذا نظام : الحاكم غير مسؤول والمسؤول غير حاكم" ** ، وهذا ما استدعى وصف رئيس الجمهورية بصلاحياته الواسعة من قبل الرئيس سليم الحص بعد تجربته في الرئاسة الثالثة، بـ" الملك على جمهورية" (ورد في كتابه نقاط على الحروف ص 107) وقد اندلعت طوال فترة تجربة الجمهورية الأولى نزاعات او جولات من النزاع والأزمات كان أساسها مطالبة المسلمين بما اسموه أولا "رفع الغبن" قبل الانطلاق في وضع الصيغة والميثاق موضع التنفيذ، ثم تحول الشعار الى المطالبة بتعزيز المشاركة في السلطة والتي كان أساسها المطالبة بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية المطلقة، المنصوص عنها في الدستور والمنقولة عن صلاحيات المندوب السامي الفرنسي.
لقد رافق هذا التأزم السياسي الجمهورية الأولى منذ قيامها حتى سقوطها مع اندلاع الحرب الاهلية عام 1975 والتي استمرت حتى العام 1989 تاريخ الإعلان عن اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية.
ان اختلال التوازن بين السلطات وتحول الحكم في أحيان كثيرة مع اندلاع الازمات الى حكم الرأسين، كان أحد أبرز العوامل الداخلية التي ساهمت في تأجيج النزاع الداخلي. (الحرب الاهلية اللبنانية حصدت عشرات الاف القتلى والجرحى)
ان جوهر الإصلاح السياسي، الذي ادخل الى النظام السياسي اللبناني عبر التعديل الدستوري في الطائف هو نقل السلطة الإجرائية من صلاحيات رئيس الجمهورية منفردا الى مجلس الوزراء مجتمعا.
ان الممارسات التي ظهرت وتظهر منذ بدء الولاية الدستورية للرئيس ميشال عون تظهر ميلا لدى الرئيس والفريق العامل معه الى محاولة العودة الى ممارسة خطوات كان يقوم بها رئيس الجمهورية قبل إقرار اتفاق الطائف بل ومحاولة الاتجاه بالممارسة نحو نظام رئاسي يتخطى النظام البرلماني الديمقراطي الذي يقوم عليه النظام السياسي والدستوري اللبناني (انظر مقابلة الرئيس حسين الحسيني المنشورة في هذا العدد).
في المحصلة ان خطورة ما تطرحه هذه الممارسات والتصريحات والمواقف المتعددة لشخصيات من فريق عمل رئيس الجمهورية تشير الى توجه ليس بخاف على أحد، لمحاولة العمل على استعادة ما يسمونه صلاحيات كانت في يد رئيس الجمهورية قبل التعديلات الدستورية في الطائف.
مراقبون كثر ومتابعون لمفاصل وتاريخ النظام السياسي اللبناني يتخوفون من الارتدادات الممكنة على استقرار النظام السياسي اللبناني إذا استمرت محاولات التملص من تطبيق الدستور وكامل بنوده او محاولة تغيير بعض النصوص عبر الممارسة التي قد تخلق سوابق دستورية تمهيدا لخلق اعراف جديدة تنال من الدستور ومواده الإجرائية فيما يتعلق بعمل السلطة التنفيذية وتحديدا العلاقة بين رئيسي الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء.
السؤال الى ماذا يمكن ان تؤدي محاولات إعادة عقارب الساعة الى الوراء والقفز فوق اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الاهلية اللبنانية؟
سؤال يؤرق فئات واسعة لا تريد العودة الى ما كان من أزمات ومحن، دفع لبنان نتيجتها اثمانا مرتفعة جدا من استقراره وتطوره.
* استاذ جامعي ومستشار في الاعلام والتواصل.
** كلام عبد الحميد كرامي منشور في أطروحة دبلوم دراسات معمقة للكاتب في معهد العلوم الاجتماعية عن رئاسة مجلس الوزراء عام 1987.