أحسب أنني كمؤرخ أرى إلى الحرب اللبنانية على أنها كانت حربا أهلية لبنانية. صحيح أنها شهدت تدخلات، ولكن كانت هذه التدخلات إقليمية أو شبه إقليمية، فهي تبقى ثانوية قياسا إلى المشكلة الأساسية، منذ أن وُجد لبنان، وقبل أن يوجد أيضا، كان في نظام المتصرفية منْ ينادي، نحو العام 1900، بلبنان كبير تكون فيه الغلبة للفريق المسيحي، كما ساد إعتقاد بأن سكان هذا البلد لبنانيون، ووُلد لبنان فعلا عام 1920. طبعا إلى جانب هذا الطرح، برزت طروحات عديدة، ومن بينها ما صار يُعرف بالطرح العربي وغيره من الطروحات الايديولوجية المختلفة التي دخلت في تناقض فيما بينها، وكانت على ارتباط بالانقسامات الدينية المتعارف عليها في لبنان كطوائف. وقد تسبب هذا التناقض بأزمات تفاقمت إلى درجة بات معها مستحيلا على لبنان أن يكون دولة عربية ذات سيادة واستقلال. وكانت الحرب الأهلية حلًّا لهذه المشكلة، فبعد وصول مختلف الأطراف بتناقضاتها إلى خانة الاشتباك، إنتهت الحرب بنتيجة هي الأفضل، إذْ دعت إلى الالتفاف حول لبنان المستقل ولبنان العربي في وقت معًا.
. هذه النتيجة هي نوع من التصالح الذي عبّر عن نفسه في اتفاق الطائف. وعلى الرغم من أن فكرة التصالح وُجِدت من قبل عام 1942، وكانت أكثر لباقة ودقة من صيغة الطائف، إلا أنّ إتفاق الطائف سمّى الأمور بأسمائها، في حين أن صيغة 1942، المهذبة اللبقة، ظلت أقرب إلى صيغة التفاهم. أي بمعنى آخر، ما حدث في الطائف هو إنزال الصيغة من علياء المستوى اللبناني إلى متناول الجميع. ولكن ما من اختلاف كبير في الأساس بين الميثاق الوطني لعام 1942 واتفاق الطائف.
ربما أُرغِم اللبنانيون على القبول بالطائف، و أدركوا أن لا طائل من وراء التقاتل وأنّ زوال لبنان أمر غير مرغوب فيه، لا إقليميا ولا دوليا، وكذلك الأمر تقسيمه إلى كانتونات، فلبنان كله لا يكفي لأن يكون كانتونا واحدا.
وما حدث هو أننا اكتشفنا أنه ينبغي علينا العيش معا، وعلى مستوى ما من الفضيلة الوطنية.وقد طُرِحت علينا هذه الفضيلة نفسها في الماضي، وعلى نحو لائق. أمّا اليوم، فقد فُرِضت علينا فرضا، ذلك أن اللبناني العادي، في الماضي، لم يكن مستعدا بعد لفهمها، كما أنّ السياسي اللبناني أساء التصرف في إطارها، وهكذا، وبعد أن غنّى الكل موّاله حتى آخره، وبعد أن دفعت الأمور إلى نهاياتها، تثبّت اللبنانيون من استحالة التوصل إلى نتيجة، وفرضت الظروف عليهم الوفاق الوطني.
لا أقول هنا أنه كانت لديّ توقعات، ولكني في العام 1975 كتبت مقالا في "جريدة النهار" قلت فيه آنذاك إن الميثاق الوطني سيُفرض على اللبنانيين فرضا في آخر المطاف. ولهذا السبب أعود إلى القول إن الحرب في لبنان كانت أهلية، وكل محاولة لتصويرها على أنها حروب للآخرين على أرض لبنان هي تزوير للواقع، أو تعني على الأقل أننا لا نعرف أنفسنا وأننا ننافق. هناك دائما منْ يصطاد في الماء العكر، وهذا صحيح، ولكنّ الماء العكر موجود أصلا، ولبنان نفسه كان " عكرا" إلى درجة تتيح لأيّ كان أن يصطاد في مائه.
الأمر المهم الذي تحقق هو أنّ الحرب انتهت،لا اعرف ماذا سيكون عليه المستقبل، فقد يطرأ تطور ما في هذه اللحظة يقلب الأمور رأسا على عقب، ولكن من المؤكد أنّ ما عرفناه في سنوات الحرب وصل الآن إلى نهاية. وعلى جاري العادة بعد نهاية كل حرب أهلية، لا بد من أنْيتعرض بعض الفرقاء لصدمة ما، ممّن كانوا يتوقعون الحصول على أكثر من ما تحقق، لا سيما أن الفريق صاحب المشروع الأساسي، أقصد الفريق المسيحي، كان يعتقد أنه سيربح الحرب ويفرض رأيه وإرادته على سائر الفرقاء، وما أراه، أنّ الذي تحقق لمصلحة الجميع، يميل إيجابا إلى مصلحة هذا الفريق، بشكل خاص. إنّ هذا الفريق وأعني به الفريق المسيحي، لا يزال يشعر بالصدمة، ولذلك ما زال القلق يسود بعض أوساطه، قلق يُعبَّر عنه بحديث من نوع " راحت علينا" و" انقسمنا وينبغي علينا توحيد الصفوف"، وهذا هو الخطأ بعينه. لأنك إذا شرعت في توحيد الصفوف، فذلك يعني أنك ما عدت تفكر. فالأمر الجيد أن يكون هناك اختلاف في الأفكار. والواقع أن هذا الأمر تحوّل إلى صدمة من الممكن أن تجدها لدى أكثر من فريق، غير أنها تبدو بارزة بوضوح لدى الفريق المسيحي.
أما الإصرار على تسميته بالفريق المسيحي وليس الماروني، فلأنني أرى أنه مسيحي وليس مارونيا، وهذا ما ألمسه مباشرة من خلال لقاءاتي بعدد كبير من المسيحيين. أحيانا أشعر أن الموارنة متعقلون أكثر من غيرهم من المسيحيين الذين تلقوا الصدمة. لقد طرح الموارنة فكرتهم وانخرطت الأغلبية الشعبية الساحقة تحت راية قيادتهم، لم يفكر أحد في صيغة 1942 لنقول بمبدأ المشاركة، ولم تكن هذه الصيغة قابلة لأن تعمل وللأسباب التي أسلفت ذكرها. ولكنّ"الطائف" أعاد التأكيد عليها، وأعتقد أنها تأتي في مصلحة الفريق المسيحي، فهي في الأساس فكرته ومقبولة من قبل الجميع، إلا إذا إستثنينا مرْضى التطرف الذين لا يجدون لهم أتباعا ولا يشكلون خطرا على الإجماع العام. في النهاية ليس هناك من رابح وخاسر، لقد تصادمت كل الطروحات وانتصر الطرح اللبناني العاقل.
هل يعني هذا أنني متفائل؟ لقد تناولت في ما سبق ناحية من المسألة، وهناك نواح أخرى لا أجدني متفائلا حيالها. فالحديث يدور حول فكرة لبنان والإجماع عليها، وربما كان من شأن الإجماع على فكرة لبنان أنْنستحدِثَ لبنانَ يستحيلُ العيش فيه. المهم أن الفكرة الأساسية هي فكرة الكيان اللبناني. وعندما كتبتُ في " النهار"* عام 1975 أنّ الميثاق الوطني سيُفرض فرضا، لم أقل إنّ العملية ستأتي من الخارج أو من جهة القوى العظمى أو العربية، قلت إنّ الظروف الدولية ستفرض الميثاق. وهذا ما تمّ بالفعل نظرا لعجز أيّ طرف أنْ يهزم الآخر. ولا أجد صلة في الشبه الذي يذهب إليه البعض بين ما حدث عام 1860( يوسف بك كرم ونفيه إلى الخارج) وما تعرّض له ميشال عون أبرز القادة المسيحيين في نهاية الحرب. ففي عام 1860 لم يكن هناك لبنان، كانت هناك أوضاع تتعلق بالإمبراطورية العثمانية، أوضاع شديدة الاختلاف ولا تُقارَن بالسائد اليوم. ففي ذلك الوقت كان لبنان جزءا من السجال حول المسألة الشرقية، وترتيب خلافة الدول الغربية للدولة العثمانية. أما الآن فنحن نحيا في لبنان الدولة التي أُنشئت باسم" لبنان الكبير" عام 1920 واعتُبِرت مستقلة عام 1943. الواقع أن مسار هذه الدولة قد تعقّد، ولو ساد التعاون بين أبنائها وفْق جوهر الدستور ونصّ الميثاق الوطني، لكان من نصيبها أن تكون "سويسرا الشرق" لِمَا سادها من شغف المدنيّة والجمال والمحافظة على البئية. وأعتقد أن الفريق المسيحي سيقتنع في نهاية المطاف أنه لم يخسر. لا بل لعل تجربتنا، وأقصد بها تجربتنا كلبنانيين على وجه العموم في الحرب، كانت جيدة. فقد اتضحت فكرة لبنان في نهايتها. طبعا قد يقال إن الطائف تمّ برعاية عربية وبوحي من أميركا وأوروبا، وإن صلات بعض الدول العربية ببعض الاطراف اللبنانية سهّلت التقاء اللبنانيين حول الطائف. ولكن مهما كان من أمرِهذا، إنّ فكرة الطائف والطريقة التي تمّ بها كانت لبنانية. إنها صيغة لبنانية شبيهة بالصيغة التي وُلدت عام 1942. في ذلك الوقت تفاخر أناس من أمثال مصطفى النحاس بأنهم صنعوها، إلا أن الفكرة لبنانية، فكرة أناس من أمثال كاظم وتقي الدين الصلح وزعماء الكتلة الدستورية، وما حدث أنها نالت إعجاب العرب وأميركا وبريطانيا، وفي اعتقادي أن الفرنسيين أعجبوا بها سرّا منذ البداية.
لنقل إذاً شكرا لله لأنّ هناك منْ اكترث لنا وجمعنا ورعى مصالحنا، إذ لا يعقل أن يكون السبيل الوحيد لإرضائناهو استمرارنا في التقاتل، فتجربتي في التعليم الجامعي في (الجامعة الأميركية) جعلتني ألاحظ مثلا أنه في العام 1974 كان الجسم الطلابي في جامعتنا يمثّل جميع الفرقاء على اختلافهم، وخلال الحرب اقتصر تمثيله على فريق دون آخر. أما الآن فلقد عاد التمثيل إلى سابق عهده. وإذا نظرنا إليهم اليوم، نجد أن نظرتهم إلى هويتهم واحدة، أي أنهم جميعهم أصبحوا يعتبرون أنفسهم لبنانيين. عام 1974 لم تكن هذه الحقيقة مؤكدة. فقد كان هناك منْ يرفض العلم اللبناني والنشيد الوطني. إذاً، هناك شيء ما تحقق اليوم: الإجماع على شيء إسمه لبنان، إسمه هوية لبنان، إسمه الكيان اللبناني.
عام 1975 كانت العروبة مشروعا إسمه القومية أو الوحدة العربية. وأصبحت العروبة اليوم صفة أساسية للهوية اللبنانية، وكفّت عن أن تكون مشروعا يهدد الكيان اللبناني. فلا خلاف اليوم حول حقيقة أنّ لبنان جزء من العالم العربي، وأنّ أهله يتكلمون العربية وينتمون إلى الحضارة العربية. ما من تحفّظ حول هذا الأمر. في السابق كان فريق من اللبنانيين يحاول فرض مشروعه على سائر اللبنانيين دون استشارتهم. كذلك الأمر كانت القومية العربية مشروعا، وبسقوط المشروعين سقط التحفّظ الذي كان يسبّب التخوّف.
لا أقول إن المستقبل أمامنا زاهر، إلا أنّ جزءًا من المشكلة قد وجد حلّه. وهذا ما يدفع البعض إلى الإحساس بالغبن. لماذا؟ لأنّ هذا البعض لا يريد أن يغادر المتاريس ويأمل بما يطرأ على الصعيد العالمي لمساعدته على استعادة الغلبة. هو فريق واحد بين فرقاء عدة من الشعب، يأمل بالسيطرة على مشيئة الآخرين، خرج من الحرب وكأن العديد من قادته وقاعدته لم يتعلم شيئا ولم ينس شيئا. إنه أمر غير معقول، ومنْ يفكر بهذه الطريقة فهو غير عاقل، ولحسن حظنا أن الفريق الذي يفكر بهذه الطريقة لم يستطع الانتصار في الحرب كما كان-هو وغيره- يعتقد. وربما لن يخوض حربا أخرى. وإذا كان يتمتع بالقدر المعقول من الإدراك والفهم، فعليه أن يهلل للطائف لأنه أفضل ما يمكن أن يُعطى لمسيحيي لبنان ومسيحيي الشرق، ولأنه أفضل تطبيق للعروبة كفكرة علمانية في لبنان وسواه.
أمّا إذا كان الاعتراض بأن الطائف أفقد السلطة في لبنان نصابها الداخلي، أي جعل من السلطة اللبنانية خارج بيروت، فليس لديَّ إعتراض على ذلك. نحن الذين خربنا بيتنا. الجميع يريد لبنان سليما معافى. والشعب اللبناني مجتمِع على إدراك هويته. غير أنّ الطامعين بالمواقع السياسية يستندون إلى التناقضات، ولا يريدون، في الوقت نفسه، التخلي عن مواقعهم الطائفية. فالفرض السياسي في لبنان غرَض أعمى، وما من أخلاق تلجم العمى السياسي. نحن نحتاج لما يضبط الوضع، لمن يحدّ من غلواء الطامحين طائفيا.
لا مجال لنظام رئاسي في لبنان، لقد تحقق الاعتراف بأهمية الوجود المسيحي، وثمة قناعة عامة بأن يكون المسيحي رمزا لرئاسة الجمهورية، ولا يبدل شيئا من حقيقة الاجماع حول هذه القناعة مهما دار السجال حول الصلاحيات وغيرها. ولكنّ الجوهري في المسألة أنّ تجربة "الطائف" وما سبقها تُبقي الامور معلّقة على أخلاقيات السياسي اللبناني. ولا أجدني متفائلا بهذا الشأن.
لذلك أقول إن الحرب بدأت عام 1920، لا بل قبل ذلك، حين كتب جوبلان حول لبنان، وحين سافر البطريرك الحويك إلى باريس، أمّا نهاية الحرب فهي في الطائف.
مادة هذا المقال تسند إلى مضمون حوار طويل أجراه " ملحق النهار" مع المؤرخ كمال الصليبي- جريدة النهار 18 تموز 1992