أقرّ الدستور اللبناني المعدل بموجب اتفاق الطائف في مقدمته مبدأ إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، واعتبر هذا الإلغاء هدفاً وطنياً أساسياً لأنه يعيد المواطن الى كنف الدولة ويجعل العلاقة بين المواطن والدولة علاقة مباشرة، لا تمر عبر الطوائف ومؤسساتها ومرجعياتها، ويؤدي في الوقت نفسه الى إحكام الصلة بين المواطن والدولة والى تحقيق مزيد من الديمقراطية على قاعدة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
وهذا المبدأ، ولا سيما في التعيين في الوظائف العامة، جاء ضمن مسار وتوجه تاريخي واضح ومستقر، ولم يأت في ساعته، ولا وليد ظروف وأحداث ضاغطة أملت مثل هذا الإجراء الاصلاحي تحقيقاً لهدف وطني أساسي.
منذ صدور الدستور اللبناني في 23 أيار 1926، جاءت المادة 7 منه لتؤكد على ان "كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات دون ما فرق بينهم ".وفي حقل الوظيفة العامة، نصت المادة 12 من الدستور على ان "لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون".
قاعدتان أساسيتان لم يطرأ عليهما أي تعديل طيلة المسار التاريخي والدستوري للدولة اللبنانية، قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين،وقاعدة الاستحقاق والجدارة في التعيين في الوظائف العامة.
وعندما نصت المادة 95 من الدستور قبل تعديلها على تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة، دون أن يؤول ذلك الى الاضرار بمصلحة الدولة، جاء ذلك على سبيل الاستثناء، ومراعاة لأوضاع وظروف تاريخية ووطنية، وبصورة مؤقتة، مما يثبت ويؤكد على القاعدة الأساسية التي نصت عليها المادة 7 والمادة 12 من الدستور.
وفي السياق نفسه، جاء البيان الوزاري لأول حكومة استقلالية في سنة 1943 ليؤكد على ضرورة العمل على الخروج من الطائفية الى رحاب الوطن، لما في تكريس الطائفية من إيهان للحياة الوطنية، ومن إعاقة لمسيرة البلاد نحو التقدم والتطور والتغيير.
أراد الطائف إلغاء الطائفية السياسية، وعلى صعيد الوظيفة العامة أيضاً، على مراحل آخذاً بعين الاعتبار، المخاوف والحساسيات الطائفية، فنصت المادة 95 منه المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990، على "تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، مهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية، وعلى ان يقترن هذا الإلغاء، وما يعقبه من انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي باستحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، وفقاً لما جاء في المادة 22 من الدستور".
وفي المرحلة الانتقالية:
1. تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
2. تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة.
استثنى الدستور وظائف الفئة الأولى فقط من قاعدة إلغاء التمثيل الطائفي، وبحيث تكون الوظائف فيها مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، و دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، وحتى في هذه الحالة، ألزم باعتماد مبدأ الاختصاص والكفاءة في التعيين، وألغى قاعدة التمثيل الطائفي في التعيين في سائر الوظائف العامة الأخرى، مع اعتماد الاختصاص والكفاءة، وأما ورود عبارة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني فلا تعني التراجع عن قاعدة إلغاء التمثيل الطائفي في التعيين في هذه الوظائف، لأن المشرع الدستوري استثنى فقط وظائف الفئة الأولى من إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي دون غيرها، ولأن القوانين المرعية الإجراء هي التي تؤمن مقتضيات الوفاق الوطني، وليس المناصفة، عن طريق اعتماد المباريات في التعيين في الوظائف التي يخضع التعيين فيها لمباراة، لأن المشاركة فيها متاحة أمام جميع الطوائف، كما تؤمن سلطة التعيين هذه المقتضيات، في الوظائف الأخرى التي لا يتم فيها التعيين عن طريق مباراة، ويكون فيها لهذه السلطة صلاحية استنسابية في الاختيار من بين الناجحين، كالتعيينات التي تجري نتيجة امتحان، كما في وظائف الفئة الخامسة، أوالتعيينات التي تجري عن طريق التعاقد، عندما لا ينص القانون على إجراء مباراة بشأنها، أو التعيينات التي يعطي فيها القانون لسلطة التعيين صلاحية استنسابية كالتعيين في وظائف الفئة الثانية أو في غيرها من التعيينات الأخرى التي يترك فيها القانون للإدارة سلطة استنسابية في التعيين، ومع الحرص على مبدأ الاختصاص والكفاءة في سائر التعيينات، التي تراعى فيها مقتضيات الوفاق الوطني، وليس المناصفة، إلا فقط في وظائف الفئة الأولى، بحيث لا تحتكر أية طائفة الوظائف العامة او تتحكم في القرار، وبحيث يتأمن التنوع في توزيع الموظفين على الادارات العامة وفي ادارة المرافق والمؤسسات العامة، وهنا تتجلى حكمة الحاكم وتبصره وبعد نظره وموضوعيته وتجرده وحرصه على المصلحة العامة والتأكيد على مفهوم الخدمة العامة، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعصبية، وسهره على انتظام عمل المؤسسات الدستورية والادارية في إطار الدستور والقانون، واحترام مبدأ تسلسل أو تدرج القواعد القانونية.
ان هذا التمييز بين وظائف الفئة الأولى وسواها من الوظائف العامة، يعبر بوضوح عن ارادة المشترع التأسيسي في حصر قاعدة التوازن الطائفي والمناصفة التي كانت معتمدة في ظل النص القديم للمادة 95 بوظائف الفئة الأولى دون سواها، واعتماد قاعدة دستورية في سائر الوظائف العامة تقوم حصراً على الاختصاص والكفاءة بما يستجيب لمقتضيات الوفاق الوطني، وبما يحقق مصلحة الدولة، وان تطبيق هذه القاعدة يجب ألا يكون قائماً على التوازن الطائفي الذي كان معتمداً في ظل النص القديم للمادة 95 في كل مشروع مرسوم أو قرار تعيين، وإلا لما كان من موجب لتعديل أحكام هذه المادة للتمييز بين وظائف الفئة الأولى وسائر الوظائف الأخرى.
جاء تطبيق الطائف وأحكام الدستور، مؤخراً، لا سيما في ما خص التعيين في الوظائف العامة، مخالفاً لهذا المسار الدستوري التاريخي، ومتعارضاً مع أحكام الدستور، فدخلت البلاد في صراع على النفوذ واقتسام الحصص، فتوزّعت الطوائف في ما بينها السلطات والمؤسسات، وزادت حدة المشاعر والممارسات الطائفية والمذهبية ووصلت الى أوجها، ولم تعد قاعدة الكفاءة والجدارة التي نص عليها الدستور هي القاعدة السائدة في تعيين الموظفين، سواء على مستوى موظفي الفئة الأولى، او على مستوى وظائف الفئة الثانية او الثالثة او ما دون ذلك، بما أدى الى حرمان الناجحين في المباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية من كل الطوائف من التعيين تحت حجة عدم التوازن الطائفي، إمعاناً في مخالفة أحكام الدستور
، ولا سيما المادة 95 منه.
والمشكلة الآن أنه تحت عنوان الطائفية، وبحجة حماية حقوق الطوائف، دخلت السياسة الى أعماق الادارة العامة ومفاصلها، فلم يتم تحييد الادارة عن السياسة وإبعادها عن الصراعات والنزاعات السياسية، بل استخدمت الادارة كسلاح وأداة استقواء في هذه الصراعات، وتحولت إدارات الدولة ومؤسساتها الى إقطاعات للطوائف والأحزاب، يتصرف البعض فيها تصرف المالك بملكه، بما عطل قاعدة إلغاء التمثيل الطائفي في الوظيفة العامة، وعطل مبدأ الاختصاص والكفاءة والجدارة، وعطل مبدأ المساواة بين المواطنين، وعطل مفهوم الديمقراطية القائم على مبدأ المساءلة والمحاسبة، وعطل أحكام الدستور والقوانين النافذة، وعطل مبدأ الشرعية، وبما أفقد أيضاً دور هيئات الرقابة التي تسهر على انتظام عمل الإدارة في إطار القانون، وقطع الطريق على إمكانية تحول لبنان الى دولة قانون ومؤسسات.
لا أمل في قيام دولة، الدستور فيها لا يطبق، ولا أمل في قيام دولة، القوانين فيها تخرق.